- Advertisement -

- Advertisement -

البطريرك بشارة الراعي… ورسالة خلاص قيامة لبنان / بقلم : غانم عاصي

في اواخر شهر ناقص من بين الشهور، أبى الا ان يعوّض ذلك النقصان،باكتمال بدره وزيادة قدره ورحابة صدره،حيث حضرت اشعاعات النور ونسجت الآمال، ولم تغرق الأحلام في عتمة الديجور،وكانت الكلمة النداء لغبطة البطريرك الراعي أمام الحشود المتهافتة إلى الصرح البطريركي في بكركي، لا تقلّ أهميّة عن نداء المطارنة الموارنة في أيلول من العام ألفين،إنّه غبطة بطريرك الشراكة والمحبة،أطلّ على الجماهير بإبتسامته المعهودة وآرائه المنشودة ،وعزيمته المعقودة،وعلى شفتيه يسيل عسل الترحاب، ومن لسانه ينطلق ما ينعش الألباب، وصدحت كلماته التي هي بمثابة اكتناز تاريخي، ودوّت بصوت ضميريّ وغرفت من كَرْم عمقها الفكريّ، وقد زنّرها بأسلاك بصره ونياط قلبه، ،وطيّبها بصلابة إيمانه وزيّنها بمحبّة لبنانه.
فمن البطريرك حويّك وإعلان دولة لبنان الكبير، إلى البطريرك عريضة والمطالبة بالإستقلال التام….إلى البطريرك صفير وتحقيق الإستقلال الثّاني…يتابع الراعي مسيرة البطاركة العظماء، فالصرح البطريركي لا يفكّر إلّا إيجابيًّا ولا ينطق إلّا وطنيّا،وقد أعطي له مجد لبنان،وتأسّس على صخرة الإيمان،وسطّر آياتٍ للزمان ورسم خارطة الإطمئنان،وطالما دافع عن كرامة الإنسان وكان وسيبقى للإنفتاح والتعايش هو العنوان،لا يرفع إصبعه أوالبنان بل يتكلّم بالمنطق ويعتمد حسن البيان.
فلقد خطّ الرسالة، وتلا الرسالة، وحفظ الرسالة، وأوصل الرسالة في ومن وإلى وطن الرسالة، وختمها بالدعوة إلى عدم السكوت،تلك الدعوة التي تعتبر بمثابة” لوحة وصايا” جديدة ولعهد واعد جديد، إلى الشعب اللبنانيّ:
“لا تسكتوا:
عن تعدّد الولاءات،وعن الفساد وعن سلب أموالكم وعن الحدود السائبة وعن خرق أجوائنا وعن فشل الطبقة السيّاسيّة وعن الخيارات الخاطئة والإنحياز،وعن فوضى التحقيق في جريمة المرفأ وعن تسييس القضاء،وعن السلاح غيرالشرعي وغير اللبناني وعن سجن الأبرياء وإطلاق المذنبين، وعن التوطين
الفلسطيني ودمج النازحين،وعن مصادرة القرار الوطني وعن الإنقلاب على الدّولة والنظام وعن عدم تأليف حكومة وعلى عدم إجراء الإصلاحات وعن نسيان الشهداء وهم ذخيرة وجودنا الوطنيّ والروحيّ…..”
وبينما كنت أسكر من كأس هذا الكلام وأخشع أمام مصداقيّته وصلني أحد الذين يتقوقعون في سياسات صغيرة وضيّقة،ويبحث عن ما يعكّر صفو العظمة في الكلمة، عبر إطلاق الملامة على التجمّع في زمن “الكورونا” أو من خلال الإستماع إلى تسجيل صوتي لسيّدة لا تفقه إلّا الكراهيّة ولا تتكلّم إلّا بالعنجهيّة وتزايد في الآدمية، وتتعرّض لمواقف البطريرك الوطنيّة، وتمسّه في” الشخصانيّة” ،وراح حامل الجوّال يتجوّل بين بعض الأسماء لمعرفة تلك “البطلة” بنظره،ولكنّ الاناء ينضح بما فيه،وتوجّهت إليه:”لا أريد أن أعرف لا إسمها ولا رسمها ولا كسمها..”ولا أريد مجادلة من لا يُقْنِع ومن لا يَقْتَنِع….
وعدت أدراجي إلى منزلي،حيث تضاء الأرجاء وتتلألأ الأجواء ويسكن الهدوء،على صوت صياح الدّيك،وسمفونيٍة العصافير، وحفيف أشجار الزيتون والغار، ووسط حجارة عاصرت الأدهار …وامتشقت يراعي وبسطت أوراقي واستنبطت أفكاري،ولجأت إلي عالمي وأحضرت مفكّرة أيّامي،وانتقيت العناوين التي تحكي عن علاقة جمعتنا بالبطريرك الراعي الذي أحبّ ضيعتنا كما أحبّته يوم كان راعيًا للأبرشيّة،فكان كلّما زارها،هتفت الهيصة الشعبيّة وحضرت الملاقاة الودّيّة، وترسّخت العلاقات البنويّة ،وهذا ما دفعه إلى أن يطلق عليها لقب “المدينة الشعبيّة” فرافقنا وسهر معنا على مشروع بناء كنيستنا ورعى وحضر إحتفال تدشين تلك الكنيسة ذلك الإحتفال الجماهري الذي قلّ نظيره في:”٨/أيلول/٢٠١٦”.
وتابعت أبسط مشاعري على أديم الذكريات، واستعدت مسيرة من النشاط الرعويّ والأبرشيّ بإشرافه وتوجيهاته،وقد أرفقها بمحبّته واحترامه وتقديره لشخصي،وهذا ما جسّده يوم شرّفني برعاية كتابي”وجوه وكلمات”ممثّلًا بسيادة راعي الأبرشيّة المطران ميشال عون،وزيّن أولى صفحات كتابي برقيم بطريركي قيّم.
إنّه بطريرك الشراكة والمحبّة،بطريرك الإنفتاح والتواضع،البطريرك الذي لا ينسى ولا يتناسى،هو الذي علّمنا أن لا نسكت عن الخطأ والظلم، وهذا ما فعلناه، فلم نسكت ولن نسكت عن الظلم والخطأ في رعايانا كما في وطننا. وسأشهد على بعض المحطّات التي تلاقينا فيها مع البطريرك وحفرت آثارًا مجيدة في البال،وستبقى راسخة رغم كلّ الأحوال وأحببنا أن ننقلها كخميرة إلى عالم الأجيال :
أما المحطّة الأولى، فتدلّ عن وقوفه الى جانب العلمانيّ عندما يخطئ رجل الدين. فقبل شهر من إنتخابه بطريرك في شباط ٢٠١١ وكان أن دعانا كراعٍ للأبرشيّة من أجل استيضاحنا حول بعض الإشكالات التي عانت منها الرعيّة، وسط خلاف مستحكم بين أعضاء الوقف وكاهن الرعيّة،وكنت يومها برفقة المربّي المرحوم كريم سعادة والزميل حنّا سعادة (شفاه الله) فأسهبنا على مدى ثلاث ساعات بشرح ما ارتكبه الكاهن من أخطاء،وكان الراعي يصغي ويصغي،ولفته أحد المواقف للأستاذ كريم حين تباهى الكاهن، الذي نجح في الحقل الأكادمي أكثر منه في الرعائي،”أنا أتقن احدى عشرة لغة”،فأجابه الأستاذ كريم :”ما النفع لو أتقنت لغات العالم أجمع وأنت تجهل لغة رعيّتك وضيعتنا…”،ورسخ في ذهننا من ذلك الإجتماع النادر بعض ما قاله سيادته:”المذبح ليس فشّة خلق…ما الذي فعلته يا أبتِ وقد أهديتك رعيّةمن أروع وأنجح الرعايا في الأبرشية،… غانم لا يتجنّى على أحد…”،ثمّ أحاله إلى المجلس الكهنوتي وعند إنتهاء اللقاء توجّه الزميل حنّا الى غبطته متنبّئا :”انشالله ما منشوفك هون سيّدنا،انشالله الشهر المقبل منشوفك بطريرك في بكركي”.وصحّ ما قاله حنّا، ،وبعد شهر سبقتنا قلوبنا إلى بكركي وكنّا من أوائل المشاركين في التهاني وفي الفرحة بالشراكة والمحبة.
وأنطلق إلى المحطّة الثانية،فكانت يوم قصدت مع الزميل حنّا الصرح للمراجعة لدى الأمانة العامّة في مسألة معيّنة،وارتأينا أن” “نميّل” لمقابلة صاحب الغبطة،فكان أن “صعّبها علينا” أحد الكهنة المسؤولين وقطع النوى أمامنا وأوصد الطريق في وجهنا، حيث لا إمكانية برأيه ورغم معرفته الوطيدة بنا، من اللقاء مع غبطته، حتى أنّه لم يدعونا إلى الإستراحة والإنتظار، لكنّنا فعلنا ذلك في بهو الصرح!!! ،وما ان خرج غبطته لوداع أحد الوفود الزائرة، حتى رنت عيناه صوبنا، فلاقانا ولاقيناه، وأبدى فرحه لقدومنا ودعانا ومن كل قلبه إلى الدخول، لكنّنا اعتذرنا مكتفين بأخذ بركته والإطمئنان عليه،ولكنّنا صارحناه بما فعله الكاهن المسؤول فتوجّه إليه غاضبًا:”ألا تعرف أنّهم أعزّ الناس إلى قلبي،إنّهم أبناء الرعيّة الأحبّ، أبناء المدينة الشعبيّة” ،وعدنا ونحن نشهد لقمّة العظمة حيث ترفرف راية التواضع.
وكانت المحطة الثالثة، عندما زرنا الصرح البطريركي في الديمان من أجل دعوة صاحب الغبطة لرعاية الإحتفال التكريمي للشاعر الراحل سليم أبي عبدالله في قاعة رعية عبادات_جبيل ،وقد ترافقنا والأساتذة إميل أبي عبدالله ورفيق الخوري وجورج أبي حنا ،فرحّب بنا غبطته،وأبدى وبكل سرور تجاوبه مع الموضوع وتشرّفنا بقبوله تلك الرعاية،وأثناء الحديث، التفت نحوي متوجها الي بالسؤال والإستفسار عن أحوال “المدينة الشعبية” ومعبّرا عن إشتياقه إليها وإلى شعبها الطيّب، وحصل أن تهرّبت من الأجابة معتبرا أن الزيارة يجب أن تبقى محصورة بموضوع الإحتفال ، فكرّر وألحّ عليّ غبطته، وما كان أمامي وأنا الذي أكنّ له كل إحترام ومودة وتقدير، سوى قول الحق واعتماد الصراحة وهذا ما درجت وتربّيت عليه، واختصرت الإجابة بأن رعيتنا ليست على ما يرام ولم تعد كما تركها، فهي تعاني الخمول والتراجع والإحباط، بسبب سياسة التحكّم لا الخدمة التي ينتهجها بعض رجال الدين سالكين درب التعنّت والتفرقة والتهميش وغير آبهين بمواقف وآراء النخبة المؤمنة والبانية من أبناءِ رعيتهم. وظهرت عندها علامات الأمتعاض وارتسمت إشارات القلق على مُحيّا غبطته، وأبدى إستعداده للمتابعة والمعالجة وأجاب بما لا أستطيع تدوينه الا في ذهني:”………”وعدنا مزوّدين بالإهتمام الدائم والموقف الداعم وكانت الرعاية وكان الرقيم البطريركي حيث أصرّ على ذكري وعلى شكري وسط جواهر الكلام في منجم الرقيم.
وإذ أكتفي بالتعريج على هذا النموذج من محطات التلاقي والتعاون مع غبطته من دون الغوص في المحطات الكثيرة التي حمعتنا به وعلى مدى خمسة وعشرين عاما من عمر خدمته لأبرشيتنا الحبيلية المارونية.
لقد قال يوما الأب المفكر والراحل ميشال عويط أمين سر البطريرك صفير للمرحوم جدي على أثر فورته وإنفعاله جرّاء موقف غير شعبوي لصفير: “إهدأ ولا تتسرّع في الحكم يا جوان، فالتاريخ وحده سيحكم وسينصف غدا البطريرك صفير…” نعم، ستبقى الكلمات والمواقف والأعمال في عهدة التاريخ، هذا التاريخ الذي سينصف أيضا وبالتأكيد البطريرك الراعي على وعيه وسعيه وعلى إهتمامه وتفانيه في سبيل إيجاد الحلول للوضع القائم، ويختمر نداؤه في خوابي الأيام من خلال ” كلمة ليست كالكلمات” تلك الكلمة التي تدثرت بالرصانة وتجلببت بالصدق واتشحت بالموقف وتحلت بالجرأة وقوبلت بالتقدير الشعبي والإهتمام الدولي، وقد بدت كصوت صارخ في برية… وكصوت رائع وخاشع وجامع لجوقة ملائكية متجانسة ومتماسكة ومتناسقة،وقد صدحت تدق على الوتر وتضرب على الإيقاع وتعتني بالألحان ولا تكسر الأوزان، وتنشد الأمان وتلتحف بالإيمان، وراحت تلعلع لأبعد من سعة المكان، وانغرست في رحاب الوجدان، بالغة المسامع والآذان ومنسابة من نبع العنفوان وهادفة الى خلاص وقيامة لبنان. غانم إسطفان عاصي حصارات في 2/آذار /2021

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد